top of page

المشرقية بين ثقل التاريخ و تعريفات الغرب و صراع الإيديولوجيات المحليّة

رامي الابراهيم

15.09.2024

مشرقية.jpg

تعريف
Levantine
المشرقية مصطلح لغوي تطلقه دورية إثنولوغ الأمريكية المختصة بلغات العالم الحية على اللهجة المحكية على طول معظم الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط على جانبي و أطراف الأنهار الرئيسية ( العاصي و الأردن) و المسطحات المائية الرئيسية ( بحيرة طبرية و البحر الميت)
تتداخل هذه اللهجة في شرق نهر الأردن مع لهجة ثانية تحكى في سيناء و غزة و صحراء النقب و معظم الأردن و جنوب غرب سورية. تطلق دورية إثنولوغ على هذه اللهجة الثانية اسم اللهجة المصرية البدوية الشرقية

مميزات فارقة

من أكثر ما يميز المشرقية استخدام كلمة سحرية هي (بدي) و التي يقابلها في العربية القياسية عموماً كلمة (أريد) و أحياناً كلمة (أحتاج). لا يقتصر دور الكلمة (بدي) على التعبير عن الرغبة و إنما تستخدم لصنع المستقبل (بدي روح، بدي سافر، بدي اشتغل الخ). و بالمقابل من أكثر ما يميز اللهجة المصرية الشرقية البدوية إضافة صوت الشين في نهاية الكلمة لصنع النفي كما في "بيفهمش" بمعنى "لا يفهم" و هو ما تشترك به مع اللهجة المصرية لكنه يختلف اختلافاً جوهرياً عن النفي في المشرقية الذي يتم بإضافة صوت الميم الأنفي أو الألف الحلقي "أ" في بداية الكلمة كما في " مبيفهم" أو "أبيفهم" و هو ما تعبر عنه العربية القياسية بالقول "لا يفهم"

لماذا إثنولوغ ؟
Ethnologue
تميز دورية إثنولوغ فيما يخص "لهجات العربية" في بلاد الشام لهجتين أخريات و هي لهجة شمال ميزوبوتاميا و تقصد بها اللهجة الحلبية المحكية في مدينة حلب و محيطها المميزة باللاحقة البدئية (دا) لصنع زمن المستقبل و لهجة نجد و تقصد بها لهجة أهل البادية في بلاد الشام الذين تدمجهم بلهجة نجد في المملكة العربية السعودية. لست هنا في صدد مناقشة مصطلحات دورية اثنولوغ المتخصصة وذات المصداقية والمعرفة العميقة و لا الحدود الجغرافية التي ترسمها لامتداد هذه اللهجات و إن كنت أظن أنني قد أعرف هذه اللهجات أكثر من لغوي أمريكي تعلم هذه اللهجات في الجامعة و أعرف ما تشترك أو تختلف به عن العربية القياسية بل إني أرى فيها إطاراً جيداً نستطيع الاستناد إليه مبدئياً لما فيه من مهنية أو حيادية وقابلية للتطور حتى. هذا و لست هنا بصدد الكتابة عن جميع هذه اللهجات و إن كان هناك ضرورة برأيي لذلك فهي تختلف عن بعضها البعض اختلافات تتجاوز المفردات إلى القواعد و التعابير الانفعالية و حتى النظام الصوتي و لكنني سأتناول بعض جوانب من اللهجة أو بالأحرى اللغة المشرقية

تحوي المشرقية على لهجات سورية ولبنانية و فلسطينية و حتى هذه الأخيرة تحوي على لهجات مناطقية داخلية فلهجة أهالي لواء الاسكندرون في تركيا ( اقليم هاتاي) ليست هي ذاتها لهجة سكان محافظة اللاذقية أو طرطوس في سوريا و لهجة سكان البقاع اللبناني غير لهجة أهالي بيروت أو الجنوب اللبناني الخ. من أكثر ما يميز المشرقية و يدفع إلى اعتبارها لغة قائمة بحد ذاتها هو نظامها الصوتي المميز الخالي من أصوات الثاء و الذال المتوافرة في بعض اللهجات المجاورة و في العربية القياسية المعاصرة أيضاً. تخلو المشرقية من أصوات الثاء و الذال وإذا وجدت فسيكون هذا بتأثير اللغة العربية القياسية المعاصرة و التعليم المدرسي و الجامعي وأجهزة الإعلام. يقول متكلم المشرقية ( ديب و ليس ذئب، توم و ليس ثوم، تلم و ليس ثلم، يدوب و ليس يذوب، تماني و ليس ثمانية، تنين و ليس اثنان الخ) و بالتالي هي أقرب للغات السامية القديمة ذات الاثنين و عشرين حرفاً منها للعربية ذات الثمانية و عشرين حرفاً


الرؤى اللغوية في خضم عمليات إعادة الإنتاج الثقافي الإيديولوجية و الحاجة إلى مخرج

نجد هذه الرؤية التي تصل المشرقية المعاصرة بلغة أو لغات المنطقة القديمة كلما ضعفت تأثيرات الثقافة الإسلامية أو العروبية السائدة أو بعبارات أكثر وضوحاً عند مسيحيي لبنان الذين يبالغون كثيراً إلى حد وصف لهجتهم المشرقية بأنها كنعانية. لا شك أن اللهجات المشرقية تحوي على عدد لا بأس به من المفردات الكنعانية الأصل و التي ماتزال متداولة حتى يومنا هذا و لكن من المغالاة الموغلة في اللاعقلانية القول أن هذه اللغة أو اللهجة المحكية ماتزال كنعانية بعد أكثر من 2300 سنة من تأثيرات اللغات المختلفة بشقيها الهندو أوربي و السامي. بل إن خضوع قسم من هذه المناطق للحثيين منذ أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد و استمرار الممالك ما بعد حثية بين 1180-700 قبل الميلاد يزيد من حجم التأثير الهندو أوربي الموغل في القدم في هذه المنطقة من العالم

أذكر من الرؤى الإيديولوجية المغالية أيضاً تلك التي يتكلم بها مسيحيوا سوريا ولاسيما السريان منهم الذين يدّعون بأن المشرقية المحكية في بلاد الشام هي سريانية علماً بأن السريانية الحديثة المحكية في شمال شرق سورية في مناطق من محافظة الحسكة تختلف كثيراً حتى عن الآرامية المحكية في قرى معلولا و بخعا و جبعدين فما بالك بالبون بينها وبين المشرقية. كما أنه من الواضح أن السريانية استمرت كلغة كنيسة يجري تعلمها و تعليمها في الكنيسة ( وهناك من المؤرخين من تكلم عن فرض الإمبراطور قسطنطين الثاني أناجيلها على حساب أناجيل آرامية غربية) أما كلغة أم أو لغة محكية فهي لم تنتشر أو تبتعد كثيراً عن موطنها الأصلي في مدينة إديسا القديمة (شانلي أورفة اليوم في جنوب تركيا) الذي تدلل عليه نقوشها الأولى التي تأخرت بالظهور عدة قرون بعد نقوش فروع الآرامية الأخرى: الحضرية و التدمرية و النبطية

هناك بلا شك أزمة هوية تعصف بالمنطقة و خاصة بعد هذا الفشل المدوي لمشروع العروبة الذي حمل وما يزال يحمل لواءه من حين لحين قوى سياسية و إيديولوجية كثيرة ويضم في صفوفه العديد من الأفراد و المثقفين و الجماعات التي ترى في العربية لغتها وفي الثقافة العربية هويتها و يفشل في ضم أفراد ومثقفين وجماعات تمايز نفسها عن العربية وثقافتها و تبحث عن هوية جديدة و إرث ثقافي مختلف. بالخلاف مع التوجهات التي تبني منطلقات نظرية و عقائدية على أهواء لغوية معينة و هوية لغوية معينة أعمل أنا على بناء وترسيخ معرفة لغوية تستند بشكل أساسي على علم اللغة و فروعه كتخصص أكاديمي و على معرفة بالتاريخ والأركيولوجيا و علم اللغة التاريخي وعلم اللغة المقارن. وفي نفس الوقت فإن مشروع تأصيل و تجذير مفردات اللغة المشرقية مثلاً أو غيرها من اللغات أو اللهجات التي لا تحظى بالاعتراف ولا الدراسة و تصنيفها بحسب جذرها السامي أو الهندوأوربي أو غيره ووضع قواميس إيتيمولوجية تاريخية أكثر بكثير من قدرات فرد و يتطلب من دون شك وجود مؤسسة أو مؤسسات راعية لهذا العمل
:المصادر
1. Brock S. Edessene Syriac in--script--ions in late antique Syria. In: Cotton HM, Hoyland RG, Price JJ, Wasserstein DJ, eds. From Hellenism to Islam: Cultural and Linguistic Change in the Roman Near East. Cambridge University Press 2009:289-302.
2. Eberhard, David M., Gary F. Simons, and Charles D. Fennig (eds.). 2024. Ethnologue: Languages of the World. Twenty-seventh edition. Dallas, Texas: SIL International. Online version: http://www.ethnologue.com.
3. Smith, J. (2021, February 9). The newest historical problems with the Qur’an. [Video]. YouTube. https://www.youtube.com/watch?v=3nXzi-_WTdI

bottom of page