top of page

أركيولوجيا النسيج في الحقبتين السومرية و ما قبل السومرية

رامي الابراهيم

من المترسخ في أذهان الناس في الغرب والشرق أن السومريين أسسوا إحدى أقدم الحضارات الإنسانية، إن لم تكن الأولى. يستند المدافعون عن هذا الاعتقاد عادةً على تعريفات معينة تفرق بين مفهوم الحضارة و مفهوم الثقافة. يسهم هذا المقال في إعادة طرح التساؤل بالاستناد على أركيولوجيا النسيج وهو العلم الذي يتقصى الصناعات النسيجية في التاريخ البشري منذ بداياتها أي منذ آلاف السنين قبل ظهور السومريين.

مقدمة

هل تعلم أن الكاتب زكريا سيتشن الذي حقق نجاحاً ملفتاً في مبيعات كتبه ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تصور أنّ السومريين كانوا من نسل كائنات فضائية من كوكب يسمى نيبيرو؟ يدل هذا على حجم الاهتمام و التأمل و التفكير والأوهام التي تثيرها هذه الثقافة القديمة جداً، وما زالت تثيرها رغم آلاف السنين التي تفصلنا عنها. ومع ذلك، فالمسألة هنا ليست إعادة كتابة تاريخ زائف يستحق أفضل قصص الخيال العلمي، بل الاستماع إلى ما تخبرنا به الأوساط الأكاديمية عن الحضارة السومرية وعن الثقافات التي سبقتها في فترات العصر النحاسي و العصر الحجري الحديث. اعتمد البحث في هذه الحقب البعيدة جداً بشكل أساسي على ثلاثة محاور أو تخصصات:
• دراسات لغوية تبحث عن لغة هندو أوروبية مفترضة سابقة للغة السومرية وتشكل طبقة لغوية استعارت منها السومرية كلمات معينة.
• دراسة أساطير بلاد ما بين النهرين مثل قصص الإلهة إنانا، وهي إلهة مهمة عُبِدَت في جزء كبير من المنطقة المعنية بالدراسة.
• وأخيراً، علم أركيولوجيا النسيج الذي تطور بشكل كبير في السنوات الأخيرة ومكّن من تحقيق تقدم جديد في الأبحاث حول الثقافات ما قبل السومرية.
كما توفر لنا المعرفة الجديدة عن إحدى الثقافات ما قبل السومرية والمعروفة أيضًا باسم ثقافة "العُبيد" اكتشافات مثيرة داخل المجتمع الأكاديمي.

الحقبة ما قبل سومرية

ليس من السهل تلخيص كل الأبحاث التي أجريت فيما يتعلق بأركيولوجيا النسيج خلال الفترة الممتدة من العصر الحجري الحديث إلى عصر السومرييين، إلا أن هذا البحث يتفق على أن النسيج عرف منذ العصر الحجري القديم أي قبل العصر الحجري الحديث. يأتي هذا الاستنتاج بعد اكتشاف حبل بسيط في موقع أوهالو2 الأثري في شمال إسرائيل وحبل آخر أقل قدماً في كهوف لاسكو في جنوب غرب فرنسا. ويتفق الباحثون في هذا المجال على أن صناعة الحبال والشباك والسلال كانت الخطوة الأولى في تاريخ صناعة النسيج.
تم العثور على بعض آثار المنسوجات الأكثر تطوراً المصنعة في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار (حوالي 8000 قبل الميلاد) في كهف نهال همار في إسرائيل وكذلك في موقع تل حالولا الأثري في سوريا حاليًا. وقد أثبت العلماء أن هذه المنسوجات كانت تصنع بدون النول الذي تم اختراعه في وقت لاحق بين 6000 و 5000 قبل الميلاد. إلا أن هؤلاء الباحثين لا يستبعدون استخدام إبرة أو إطار خشبي لتسهيل تقنية النسيج المزدوج. لا يزال العلماء يناقشون ما إذا كانت ثقافات ما قبل السومريين قد عرفت بالفعل حلقة المغزل كأداة للغزل. تقول عالمة الأنثروبولوجيا من جامعة نيويورك، ريتا رايت، في مقال علمي نشر عام 2012، أن حلقة المغزل تم اختراعها حوالي 7000 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين.
تطرح مجلة باليوأورينت فرضيتين فيما يتعلق بتقنيات الغزل المستخدمة في تل حالولا. تقول الأولى أنه تم الحصول على خيط عن طريق فتل الألياف في راحة اليد أو على سطح خشبي. أما التقنية الأخرى فتتضمن استخدام حلقات مغزلية لم يعد لها أثر اليوم لأنها كانت مصنوعة من الخشب ولم تقاوم عوامل الزمن.
أما عن طبيعة الألياف فيؤكد معهد التراث التاريخي الإسباني أنها كانت من الكتان. وعلى غرار المنسوجات التي تم اكتشافها في ناهال همار، يعتقد الباحثون مرة أخرى أن الكتان كان النبات المستخدم في عملية الغزل.
وبالانتقال إلى أواخر العصر الحجري الحديث في شمال بلاد الشام، يزودنا موقع شيرالأثري في سوريا، على بعد 12 كيلومترًا من مدينة حماة، بخزف عيه طبعات يعتقد الباحثون أنها طبعات نسيجية. ومع ذلك، فإن هذه الفرضية لا تلقى إجماعاً أكاديمياً. يؤكد الباحثون أن أسطح السيراميك تم جعلها خشنة عمداً، لكنهم لا يستطيعون الجزم بما إذا كان ذلك قد تم عن طريق الأظافر أو أي أداة حادة أخرى. ويصنف الباحثون في هذا المجال الخزفيات الموجودة في الموقع حسب مظهر آثارها. هناك، على سبيل المثال، فئة للسيراميك المطبع بطبعات نسيجية أو شبيهة بالمنسوجات، وفئة أخرى تشبه السلال في أشكالها، وأخيراً فئة الأنماط المشابهة للأهداب أو الشراشيب.
كما يمكن اعتبار آثار بذور الكتان التي كشفت عنها الحفريات دليلاً على ممارسة صناعة المنسوجات خلال الفترة ما قبل السومرية.
وأخيراً سأمر بالذكر على موقع تل العويلي الأركيولوجي في جنوب العراق والذي يقع في المنطقة التي استوطنتها الثقافة العُبيدية قبل السومريين حيث ثبت استخدام الكتان فيه بغرض صناعة المنسوجات حوالي 4500-4000 قبل الميلاد.

المنسوجات السومرية

على خلاف فترة ما قبل السومريين، تتوافر الكثير من المعلومات حول صناعة النسيج السومرية من خلال متن النصوص وصور التماثيل والأختام والنقوش والأسقف والأعمال الفنية. أولت عالمة الأنثروبولوجيا ريتا بي رايت اهتماماً خاصاً بموضوع الملابس السومرية وبفضل بحثها نعرف اليوم أن الرجال المدنيين السومريين ارتدوا التنورات المتدلية حتى الركبتين، بينما وصلت ملابس النساء إلى الكاحلين. ونعلم أيضًا أن السومريين كانوا يكسون عبيدهم بنوع من الملابس هو الأقل جودة بينما  صنعت الأنواع الثلاثة الأخرى من الألياف عالية الجودة و تم تخصيصها بالطبع للطبقات الاجتماعية الأعلى و طبقة والنبلاء.
كما أصبح الزي العسكري السومري معروفاً أيضاً، وبفضل لوحة الحرب و السلم السومرية ، يمكننا بسهولة التمييز بين الزي الخاص برجل مجند عادي وزي سائق العجلة الحربية. يتميز المجندون بعباءاتهم ، لكن يمكن التعرف على سائقي العربات من خلال الأوشحة الموجودة على أكتافهم اليسرى، أما العري فكان مرتبطًا بشكل عام بالكهنة.
يدلل توافر الملابس الخاصة مثل ملابس حيض النساء والملابس الداخلية على أن صناعة النسيج السومرية كانت متطورة بشكل جيد.
لم تفتقر الملابس السومرية للإكسسوارات والألوان المرتبطة بكل طبقة اجتماعية وجنس. فالملك، على سبيل المثال، ارتدى ملابس صفراء زاهية، في حين ارتدى النبلاء ملابس متعددة الألوان. كانت ملابس النساء في بعض الأحيان داكنة أو سوداء في حين بقي الأبيض لونًا محايدًا ولم يتم تخصيصه لأي فئة من الأشخاص أو الشرائح. في الواقع، تصف الألواح السومرية أنواعًا أخرى من الملابس من خلال الإشارة إلى شكلها وطولها وعرضها وحجمها بالإضافة إلى أسمائها باللغة السومرية. فعلى سبيل المثال، كان الثوب المسمى غوزا ( جيم مصرية) مربعًا بطول 3.5 متر.
لم تكن الملابس السومرية تفتقر إلى الملحقات أو الإكسسوارات مثل الأشرطة والزخارف و الأهداب ( أو الشراشيب). وبالفعل فإن الشراشيب هذه ملفتة للانتباه بشكل ملحوظ للغاية على ملابسهم بغض النظر عن نوع الملابس أو استخدامها أو الشخص الذي يرتديها.
من الواضح أن السومريين حظوا بصناعة نسيج المتطورة و بأن تقنياتهم استمرت حتى بداية الثورة الصناعية الأوروبية الحديثة. ومن ناحية أخرى، ما لا يعرفه الناس كثيرًا هو أن السومريين لم يخترعوا العديد من التقنيات الجديدة المتعلقة بالغزل والنسيج. ومن المؤكد أنهم ساهموا في تطوير صناعة النسيج من حيث القدرة على الإنتاج الكمي الضخم معتمدين على حضارتهم الزراعية والرعوية. تصف الألواح من مدينة أوما السومرية خلال حكم سلالة اور الثالثة الإجراءات بشكل مفصّل: عدد الحيوانات التي جزها يوميًا، وكم سنتيمترًا من النسيج الذي يكمله العامل/ة كل يوم، وما إلى ذلك. وفيما يتعلق بالصبغة، لا توجد أدلة أركيولوجية كافية تقول بأن السومريين مارسوا هذه الصناعة على الرغم تقديم ألواح أوما لمعلومات عن الملابس الملونة.

الانتقال إلى استخدام الصوف

يمكن الحصول على ألياف النسيج من مصادر مختلفة، لكن لا شيء يؤكد استخدام القطن أو القنب أو الجوت في بلاد ما بين النهرين. تذكر عالمة الأنثروبولوجيا ريتا رايت أربعة مصادر من الألياف المستخدمة في بلاد ما بين النهرين: القصب والنخيل والصوف والكتان، وهي الموارد الرئيسية عند السومريين. ويقدرعالم أنثروبولوجيا آخر من جامعة أوهايو، جوي ماكوريستون، أن تحول السومريين إلى استخدام الصوف ساهم في إنتاج المنسوجات بكميات كبيرة وقلل الاعتماد على الكتان إلى 10 بالمائة فقط بحلول الألفية الثالثة قبل الميلاد.

باختصار، تم اختراع الأدوات الأكثر أهمية لصناعة النسيج (حلقة المغزل والنول) عدة آلاف من السنين قبل عصر السومريين. لذلك يمكن القول أن السومريين لم يساهموا كثيراً في تطوير صناعة النسيج لكنهم استفادوا من ثقافتهم الزراعية والرعوية المتطورة ووفرة حيوانات المزرعة عندهم بغية إنتاج الكثير من الصوف. مهدت هذه الوفرة من الصوف الحيواني الطريق
لإنتاج المنسوجات بكميات كبيرة.
Sources:
Alfaro Giner Carmen. Textiles from the Pre-Pottery Neolithic Site of Tell Halula (Euphrates Valley, Syria). In: Paléorient, 2012, vol. 38, n°1-2. pp. 41-54; doi: https://doi.org/10.3406/ paleo.2012.5457 https://www.persee.fr/doc/ paleo_0153-9345_2012_num_38_1_5457
Andersson Strand Eva, Breniquet Ca therine, Nosch Marie-Louise, Tengberg Margareta. Introduction au dossier «Pré histoire des Textiles au Proche-Orient» / Introduction to the file “Prehistory of Textiles in the Near East”. In: Paléorient, 2012, vol. 38, n°1-2. pp. 13-20; doi: https://doi.org/10.3406/ paleo.2012.5455 https://www.persee. fr/doc/paleo_0153-9345_2012_ num_38_1_5455
Nieuwenhuyse Olivier, Bartl Karin, Berghuijs Koen, Vogelsang-Eastwood Gillian. The cord-impressed potte ry from the Late Neolithic Northern Levant: Case-study Shir (Syria). In: Paléorient, 2012, vol. 38, n°1-2. pp. 65-77; doi: https://doi.org/10.3406/ paleo.2012.5459 https://www.persee.fr/doc/ paleo_0153-9345_2012_num_38_1_5459 Wright, R. (2013). Sumerian and Ak kadian Industries: Crafting Textiles. In H. E. W. Crawford (Ed.), The Sumerian World (pp. 395-417). Routledge Press.

bottom of page