top of page

اللازمات السردية الحكائية (قال، عاد، توت) في المشرقية

رامي الابراهيم

تتميز المشرقية المحكية على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ( باستثناء مناطق تتداخل فيها مع المصرية البدوية الشرقية، لكن تبقى المشرقية هي الطاغية و ذات التأثير التفاعلي الأكبر) بسمات و خصائص نستعرض جانباً منها في كل مقالة على حدة. و في هذه المقالة نتناول جانباً لغوياً ثقافيا و هو لازمات السرد الحكائي في المشرقية ( قال أو آل، عاد و توت) و تبحث في

أصولها اللغوية و الثقافية في لغات الهلال الخصيب القديمة

استعراض أوسع للمفردات و التعابير و الجمل ذات الصلة

يظن كاتب هذا المقال أن هذه المفردات الثلاث هي الأصل لمجموعة من التعابير و المفردات المستخدمة في المشرقية عند السرد. بينما تعرّض كل من المطلع الحكائي و القفلة أو الخاتمة الحكائية للإضافات و التغييرات على شكل جمل أو عبارات طويلة، فإن المفردة التي ترد و تكرر في متن الحكاية "عاد" و التي يقابلها في العربية القياسية " ثمّ" أو " ومن ثمّ" فإن استبدالها يكون عادة بمفردة واحدة مثل "بعدين" و أحياناً "عودي" أو "عودين" و ما الأخيرتان إلا تنويعات على الجذر "عاد" "عود" "عيد"

على خلاف المطلع و الخاتمة فإن المتن محكوم بتدفق السرد وبزخمه و بشوق الجمهور لسماع التتمة أو الخاتمة الخ و بالتالي هو لا

يحتمل الإضافة أو التعديل البديعي الزخرفي، و إن حصل فلن يكون عادة مستحباً و مقبولاً من قبل المستمعين كما هو الحال في مطلع الحكاية أو نهايتها
:إذا استمعنا لعدد كبير من الحكايات في مناطق الساحل الشرقي للمتوسط اليوم فلاشك أننا سنسمع الكثير من المطالع نذكر منها

(كان يا ما كان في قديم الزمان، بزماناتو، بهالزمانات، قال كان في، بيقلك، هيدا كان في الخ)
إذا استبعدنا الجملة القادمة من العربية القياسية المعاصرة و من الأدب المكتوب " كان يا ماكان في قديم الزمان" و إذا استبعدنا أيضاً عبارات المصرية البدوية الشرقية " بزمانو، بزماناتو، بهالزمانات الخ" فإن اقتصارنا على عبارات المشرقية يجعلنا في مواجهة واضحة مع عبارات مثل: " قال كان في" "هيدا كان في" و " بيقلك كان في" ( بيقلك جيم مصرية)
من الواضح أن كلمة "هيدا" اللبنانية تستبدل كلمة قال و تقوم بوظيفتها التي سنبينها لاحقاً في معرض حديثنا
:أما فيما يخص الخاتمة أو النهاية الحكائية فلهذه تنويعات أيضاً نذكر منها
توتي توتي خلصت الحتوتي
توتي توتي و بعبك مفلوتي

هاي الحكاية حكيناها و بعبك خبيناها

بعد هذا الاستعراض الأوسع لبروتوكولات الحكاية المشرقية نركز في بقية المقال على ما نظنه الأصل الأقدم في سرد الحكاية المشرقية أي: ( قال، عاد، توت)

"قال" أو "آل" ذات النهاية الساكنة

يتميز السرد المشرقي عموماً والسرد الحكائي خاصة بكلمة استفتاحية "قال" ساكنة اللام أو "آل" في المناطق الداخلية و دمشق. تختلف هذه الكلمة عن الكلمة المعروفة في العربية القياسية المعاصرة " قالَ" المبنية على الفتح في آخرها و التي ترتبط بوجود فاعل مفرد مذكر و بزمن الماضي. على خلاف "قالَ" المرتبطة بفاعل معين ذو جنس معين يقوم بفعل القول بزمن الماضي حصراً كما في ( قالَ حسان: "جاءت أمي") فإن "قال" أو "آل" المشرقية تؤدي كما يبدو وظيفة تحديد ماهية الكلام الذي يتبعها و هي في هذا تشترك مع اللغة السومرية كما سنشرح لاحقاً
ما إن يسمع متكلم المشرقية كلمة "قال" ذات النهاية الساكنة حتى يعرف أننا في صدد سرد حكاية أو حادثة و يعرف أيضا أن دلالة الكلمة قد انتهت تماماً و أن ما سيتلوها في المشرقية هو الحادثة أو الحكاية. الأمر مختلف نوعاً ما في العربية القياسية ففعل القول يستلزم فاعلاً قائلاً وكلمة أخرى على الأقل أو جملة أخرى لمقول القول في محل مفعول به. هذا و يبقى احتمال أن الحكاية هي كلها في محل مفعول به لفعل "قال" قائماً، وأن الفاعل في هذه الحالة هو ضمير مستتر تقديره " فلان" أو " الراوي". على أي حال يبقى علينا في هذه الحالة تفسير سر اختفاء الفاعل الحاضر في الأدب الشعبي المكتوب " قال الراوي يا سادة يا كرام" أو عدم استخدام المبني للمجهول "قيل" أو "يقال" كما هو الحال في العربية القياسية عندما تكون معرفة الفاعل غير ذات أهمية


الافتتاحية السردية المشرقية و اللغة السومرية: لقاء وفراق

يؤدي الرمز أو البكتوغراف في اللغة السومرية إحدى ثلاث وظائف ( الدلالة المعنوية و الترميز الصوتي و التصنيف) و لايمكن فصل معرفتنا العامة بالبكتوغراف عن معرفتنا بوظيفته الراهنة من أجل فهم نص معين باللغة السومرية. يكون للرمز أو البكتوغراف وظيفة دلالية محددة في معظم الأحوال و هي المعروفة في اللغات المعاصرة اليوم التي يشير الدال فيها إلى مدلول حسي أو مجرد. أما عن وظيفة الترميز الصوتي فهي عندما نكون أمام اسم علم و نقرأ الرموز بدلالاتها الصوتية اللفظية و ليس بدلالاتها المعنوية الحسية أو المجردة ( في اللغات الحديثة عادة ما تقوم الأحرف بهذه المهمة: إما الأحرف الأبجدية أو رموز لفظ اصطلاحية خاصة ). أما الوظيفة الثالثة و التي تهمنا في هذه المقالة و التي نجد فيها تشابهاً و تطابقاً مع وظيفة اللازمات السردية في المشرقية فهي وظيفة التحديد أوالتصنيف أي (التعريف بماهية الكلمة أو الكلمات التالية)
𒀭 :لنأخذ مثلاً رمز النجمة الثمانية
يشير الرمز بدلالته المعنوية المحددة إلى الإله المحدد آن، أما بوظيفته كترميز صوتي فهو يمكن أن يدخل في تركيب و كتابة اي اسم يحوي على "آن" مثل " نعمان، نيسان، الخ
أما بوظيفته كاسم تحديد أو أداة تصنيف فهو يقول بأن الكلمة التالية هي اسم لاله أو الهة، وبالتالي قد يرد قبل اسم الاله إنكي او نيسابا أو ننخرسانيه الخ
و إذا اقتصرنا على الحديث عن الوظيفة التصنيفية فاذكر على سبيل المثال أن الرمز موشن

𒄷

يشير إلى صنف الطيور أي أن الكلمة أو مجموعة الرموز التالية هي لطائر معين

كما سأذكر على سبيل المثال أيضا أن الرمز أو البكتوغراف

𒄑

مييش يشير إلى المواد أو الموجودات المصنوعة من خشب أو المكونة من مادة الخشب
"كما أن البكتوفراف "سال

𒊩

يدل في وظيفته التصنيفية على أن الكلمة التالية هي اسم علم مؤنث و هكذا
بالمقارنة مع وظيفة "قال" أو "آل" ساكنة النهاية نجد أن اللازمة المشرقية تعمل بشكل مشابه و تدلنا على أننا في صدد سماع حكاية أو حادثة و تصنف الكلام التالي لها على أنه حكائي
تخلو اللغات السامية حقيقة بقديمها و حديثها من هذه المحددات الوظيفية باستثناء الأكادية التي استعارت بالفعل من السومرية بعض

المحددات كتلك التي تشير إلى الآلهة أو علامة كور

𒆳

التي تسبق أسماء الأماكن أو مول

𒀯

التي تسبق اسماء النجوم. و بالنسبة للغات الهندو أوربية القديمة يمكن القول أنه تم رصد هذه
.الظاهرة اللغوية في اللغة الحثية ضمن إطار محدود
خلاصة القول أننا أمام نظريتين تفيد إحداها بأن الحكاية بكاملها هي جملة مقول القول لقائل غائب تقديره "فلان" أو "الراوي" و هي الأرجح و نظرية ثانية تفيد بأن كلمة "قال" ساكنة اللام تعمل عمل المحددات التصنيفية التي رصدت أولاً في السومرية ومنها انتقلت إلى بعض اللغات الأخرى. قد تكون النظرية الثانية أضعف من الأولى و لكننا لا نستطيع تجاهلها كلياً وفق المعطيات و المعلومات المتوفرة لدينا حالياً


لازمة المتن (عاد)

للجذر עֵד (عاد) في العبرية و الآرامية دلالات تفيد الإثبات و الشهادة بصحة الكلام و يستخدم في سياقات قانونية ودينية مثل الشهادة أمام المحكمة ومنه الكلمة "עֵדוּת" عيدوت التي تعني شهادة او إثبات. كما أن للجذر في العبرية معنى آخر يرتبط بالاستمرارية في الزمن فترد في التوراة في العبارة "לְעוֹלָם וָעֵד" (لـعالَم وْعاد) بمعنى إلى الأبد أو إلى دهر الدهور. يناسب كلا المعنيين المرتبطين بالكلمة "عاد" التوظيف الذي نجده في متن الحكاية المشرقية فمن جهة تؤدي وظيفة التأكيد و الإثبات على صدق الحكاية و صحتها و من جهة أخرى تفيد تأكيد الاستمرار على أن الحكاية ما تزال مستمرة أو لم تنته بعد.
تفسرهذه المعاني توظيف الكلمة عاد و تكرارها في سير الحكاية المشرقية أكثر بكثير من المعنى المرتبط بالعودة أو الرجوع في العربية القياسية المعاصرة


القفلة أو الخاتمة توت

ليس لدي الكثير لأقوله بخصوص "توتي توتي" سوى أنها تشير بلا شك إلى نهاية الحكاية و إلى أن حرف التاء أو التاو 𐤕 يأتي في نهاية الأحرف الأبجدية الفينيقية و الآرامية و العبرية والتي يعرف معظمنا ترتيبها في العبارة: " أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت"
أما العبارات الزائدة مثل "بعبك مفلوتي" أو " بعبك خبيناها" فهي تعمل كوصيّة بحفظ الحكاية و إعادة رويها للأجيال اللاحقة. وبالتالي فإن مجمل عبارة "هاي الحكاية حكيناها، و بعبك خبيناها" هي بمثابة القول بالعربية القياسية المعاصرة: "ها قد أنهينا رواية الحكاية و أصبحت الآن في عهدتك​"

:المصادر
1. Black, Jeremy, and Anthony Green. Gods, Demons and Symbols of Ancient Mesopotamia: An Illustrated Dictionary. Austin, TX: University of Texas Press, 1992.
2. Botterweck, G. Johannes, and Helmer Ringgren, eds. Theological Dictionary of the Old Testament (TDOT). Translated by John T. Willis et al. Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1974–2006.
3. Brown, Francis, S. R. Driver, and Charles A. Briggs. A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament. Oxford: Clarendon Press, 1906.
4. Buccellati, Giorgio. A Structural Grammar of Babylonian. Wiesbaden: Harrassowitz Verlag, 1996.
5. Gesenius, Wilhelm. Gesenius’ Hebrew and Chaldee Lexicon to the Old Testament -script-ures. Translated by Samuel Prideaux Tregelles. Bellingham, WA: Logos Bible Software, 2003.
6.Ibrahim,R."The Sumerian Word for Goose".Ahewar. Retrieved on 03.11.2024 from https://www.ahewar.org/eng/show.art.asp?aid=4109&r=0
7. Koehler, Ludwig, and W-alter-Baumgartner. The Hebrew and Aramaic Lexicon of the Old Testament (HALOT). Revised by Johann Jakob Stamm. Leiden: Brill, 2001.

bottom of page